التحرش الجنسي: "السكوت ليس علامة الرضا"

التحرش الجنسي: "السكوت ليس علامة الرضا"
التحرش الجنسي: "السكوت ليس علامة الرضا"

متابعات

خفت أتكلم لأني مغمورة بس هو كان عنده علاقات، وأنا كالعادة كنت شاكة في عقلي وفي اللي حسيته"، "معرفتش أتكلم، معرفتش أعمل إيه"، "كان أبو صاحبتي وأكبر من أبويا .. خفت أحكي"، "كان مطلع عضوه الذكري، خفت أتكلم عشان في واحده كانت قاعدة ورايا قالت يا حرام عقله تعبان"،" كان بيقولي لو قلتي لأمك هتموتك، وأمي كانت بتقول لو حد حط أيده فى المكان دا هتدفني حية"، "قررت أحكي لماما، سكتت وخفت أحسن الموضوع يكبر" ، "سكت عشان مش عارفة أتصرف وخايفة من الناس" ، "خفت وجريت ومن ساعتها بخاف من أى نفق".

هذا جانب صغير للغاية من شهادات ناجيات من التحرش عن تجاربهن التي قررن أخيرا الإفصاح عنها عبر مواقع التواصل الاجتماعي بعد سنوات طويلة من وقوعها.

وقد انتشرت هاشتاغات عدة على مواقع التواصل الاجتماعي خلال الأيام الأخيرة لتشجع الفتيات والنساء على البوح وتحطيم حاجز الصمت المحيط بظاهرة التحرش الجنسي .. ذلك الحاجز الوهمي الذي بُني عبر عقود طويلة ويبدو أنه في طريقة للتهاوي كما تشير إلى ذلك ناشطات نسويات من مختلف البلدان

ومن بين هذه الهاشتاغات: "متسكتيش عن حقك"، "وقتها سكت علشان"، "أول محاوله تحرش كان عمري"، "أنا ناجية"، "بداية ثورة نسويّة" ، "قصص التحرش".

آلاف القصص وآلاف الناجيات من طبقات مختلفة وخلفيات علمية واجتماعية واقتصادية ودينية متعددة، تتباين ملابسات تجاربهن وأماكن وقوعها وزمنها.

لكن قراءة هذه الروايات والشهادات بدقة والربط بينها يكشفان كلمتين هما الأكثر تكرارا فيها : الخوف والسكوت.

وتلخص مسؤولة وحدة الدعم النفسي في مؤسسة القاهرة للتنمية والقانون، ميرا مرقس، دوافع الصمت في حالات التحرش الجنسي في ثلاثة أسباب: الشعور بالخزي والإنكار واليأس.

وتقول ميرا إن "الشعور بالخزي هو رد فعل تلقائي لمن تعرضن للإيذاء الجنسي، إذ تُسبب الواقعة إحساسا بالدونية يُضاف لتراكمات التربية التي تنزع ثقة النساء بأنفسهن من الأساس، وهو ما يجعل الضحية تنحي بالائمة على نفسها، وبالتالي تشعر بالخزي أكثر لتدور في حلقة مفرغة.

كما تضيف أن : "هذه المشاعر السلبية تجعل النساء يملن إلى إنكار ما حدث أو التقليل منه كالتعامل مع الاعتداء على أنه مجرد تودد أو التحرش على أنه "معاكسة" وذلك لرفضها رؤية نفسها ضحية أو للهروب من جلد الذات. وهذا يقود للشعور باليأس وقلة الحيلة ، فالمجتمع الذي يلوم الضحية ويصفق للجاني بالضرورة لن يكون منصفاً وبالتالى فالحكي لن يجدي نفعا بل سيتنزف قواها في الدفاع عن نفسها وهى مستنزفة أصلا مما تعرضت له من إيذاء".

"يعزز الشعور بقلة الحيلة أيضا ثقافة التبرير الدائم للرجل" كما تقول الناشطة النسوية في لبنان، حياة مرشاد، فضلا عن غياب دولة القانون إذ لا توجد قوانين تحمي النساء من العنف الجنسي فى لبنان، الأمر الذي يجعل الوصم اللاحق على الحكي بلا مقابل.

وبرغم وجود مثل هذا القانون فى بلد كمصر إذ يعاقب القانون على جريمة التحرش بالسجن 6 أشهر تصل إلى عام إذا تكررت، إلا أن ثقافة الإفلات من العقوبة كما تقول مي صالح عضو مجلس أمناء مؤسسة المراة الجديدة عرقلت فعالية هذا القانون لسنوات.

إذ لا تُعطى الأولوية لقضايا العنف الجنسي ولا يُتعامل معها بجدية حتى عند تقديم البلاغات للشرطة باعتبار قضايا السرقة والإرهاب أهم. كذلك إجراءات القبض على الجناة وملابساتها تسمح بالإفلات من العقوبة.

بالإضافة إلى ذلك، يتم تشتيت الناجيات عند إبلاغ الشرطة في قضايا جانبية حول إثبات ماهية ما حدث وإيجاد أدلة بدلا من توجيه الاتهام للجاني ومطالبته بتبرير نفسه إن شكك في رواية المجني عليها بحسب ميرا، المستشارة النفسية ، التي تؤكد أن "هذه الإجراءات تزيد من خوف النساء من عدم تصديقهن ما يدفعهن للسكوت ومن ثم يفلت الجاني بفعلته التى تظل طي الكتمان".

وبذلك تكون النساء محاطة بدائرة محكمة من الخوف على سمعتهن مروراً بالخوف من تهديدات وابتزازات المتحرش إلى الخوف من فقدان وظائفهن والخوف على مستقبل حصولهن على فرص في العمل والعلاقات والتعليم، وإذا تجاوزت كل هذه المخاوف لتبوح، تصطدم بالخوف من التشكيك في روايتها.

وجميع النساء يقعن فريسة لهذه الدائرة من المخاوف لافرق بين متعلمة وأمية وغنية وفقيرة، وواعية بحقوقها وغير واعية كما تؤكد ميرا ومي وحياة من واقع احتكاكهن بقضايا الناجيات من التحرش.

لكن يبدو أن بعض الفتيات المصريات قررن في الآونة الأخيرة كسر هذه الدائرة وعدم السماح للجاني بالإفلات من العقوبة، فقررن الحكي واستخدمن وسائل التواصل الاجتماعي كمساحة آمنة للتعبير عن ما تعرضن له من انتهاكات.

وخرجت مزاعم بشأن ارتكاب شاب خريج الجامعة الأمريكية لجرائم عنف جنسي بحق عشرات الفتيات، وهى القضية التي لا تزال قيد التحقيق في مصر.

هذه الحادثة فاقت كل التوقعات ليس فقط لكثرة عدد النساء اللائي ادعين تعرضهن لاعتداء جنسي على يد شخص واحد، ولا لصغر سن الشخص المدعى عليه ارتكاب جرائم العنف، ولكن أيضا لطول المدة التي يزعم أنه مارس خلالها العنف الجنسي وهو ما يشير إلى اطمئنانه للإفلات من العقوبة.

الأمر الذي يكشف الغطاء عن فداحة ما خلفته ثقافة الصمت إزاء التحرش بحق النساء والمجتمع ككل، كما تقول مي من مؤسسة المرأة الجديدة.

وبرغم أن الفتيات التى حركن هذة القضية ينتمين إلى طبقة اجتماعية ُتوصف بالأعلى باعتبارهن من خريجات المدارس الدولية والجامعة الأمريكية إلا أنهن كن أيضا فريسة لمخاوف الوصم بين أبناء طبقتهن بدليل أنهن لم يقدمن بلاغات رسمية إلا بعد تشجيع من مؤسسات الدولة.

لكن بحسب مي، كانت لديهن ميزات دفعت باتجاه كسر حاجز الصمت كتمتعهن بالقدرة المالية على تحمل تكاليف التقاضي، وتمتعهن بحماية اجتماعية من جانب أقاربهن الذين يعملون في وظائف مرموقة وكذلك اتصالهن الدائم بالمواقع التواصل الاجتماعي وتلاشي فكرة الخوف على "لقمة العيش" أو عدم التصديق من جانب

وبصرف النظر عن ذلك، فبمجرد شق هؤلاء الفتيات الجدار، فتحت مئات النساء من مختلف الطبقات والتيارات صندوقهن الأسود وبدأن يحكين عن تجاربهن السابقة مع التحرش، الأمر الذي كشف عن حجم الظاهرة فى المجتمع وتعدد صورها، مما أحرج مؤسسات الدولة واستنفر همتها لتتخذ إجراءات أكثر جدية فى التعامل معها، ليخرج الأزهر بخطاب – كما تصف مي – غير مسبوق فى دعم النساء وتشجيعهن على الإبلاغ عن التحرش، كما تحرك المجلس القومي للمرأة لتقديم بلاغ رسمي عن أحدث واقعة تحرش للتحقيق فيها.

البوح أيضا دفع نحو تغيير القانون في مصر لحماية الناجيات والشهود والحفاظ على سرية بيانتهن ومعلوماتهن.

إذ جرت الموافقة على قانون بهذا الشأن في مجلس الوزارء بانتظار موافقة البرلمان عليه. هذا الحالة من المكاشفة والمصارحة تضغط أيضا باتجاه إقرار قانون موحد للحماية من العنف، وهو القانون الذي تسعى منظمات معنية بحقوق المرأة في مصر لتمريره في البرلمان، فضلا عن الدفع باتجاه التصديق على اتفاقية 190 من منظمة العمل الدولية بشأن القضاء على العنف والتحرش في عالم العمل.

وشجع هذا الحراك مزيدا من النساء على الحكي ليقدن حراكا مجتمعيا كما تصفه حياة ، الناشطة النسوية بلبنان، لحقهن فيه المشاهير والفنانين ومنظمات المجتمع المدني والإعلام مما خلق بيئة مناصرة للناجيات من التحرش ليس في مصر وحدها و لكن أيضا في محيطها العربي، مما يعني أن مزيدا من حوادث التحرش جرت وسيُكشف عنها خلال الأيام المقبلة، كما يحمي أجيالا قادمة من السقوط في دائرة الخوف للانقسام.

والمكسب الأهم من وراء هذا الزخم، بحسب حياة، هو فتح المجال العام للنساء العربيات للحكي عن معانتهن ، "فلا تغيير بلا رفع الصوت". وتؤكد حياة أن ما يحدث اليوم يشجع الملايين فى مختلف أرجاء العالم العربي على فتح القضايا المسكوت عنها ويعطي إحساسا بالتضامن العابر للحدود مما يدفع بالضرورة نحو التغيير حتى ولو على المدى البعيد.

وبناء على ذلك فإن تشجيع النساء على الإبلاغ والبوح بما تعرضن له من تحرش حتى لوفى فترات سابقة لا يهدف فقط للمساعدة في علاجهن وإعادة تأهيلهن نفسيا كما تقول ميرا، وإنما أيضا يؤسس لوعي مختلف وواقع قانوني واجتماعي أكثر إنصافا يقود لشارع و بيت و مكان عمل آمن وآدمي للجميع.

فنتائج حالة المصارحة هذه ليست فقط في صالح النساء، فكما انفتح المجال لهن يبدو أن الرجال أيضا تشجعوا لكشف المستور حتى وإن كان بخطوات أبطأ، فخرجت أصوات تتحدث عن تحرش طبيب مشهور بالرجال، وخرجت أصوات أخرى تحكي عن قصص الذكور مع التحرش الجنسي.

أيضا اختلفت آليات مجابهة الأصوات التى تبرر للتحرش بدعوى التعري وإثارة الغرائز و ضرورة التزام النساء منازلها وضرورة التزام زي معين لدرء الفتن، لتمتلئ مواقع التواصل الاجتماعي بقصص تشيد بتحمل نساء عاديات وبسيطات مسؤولية أسرهن الصغيرة. المختلف فى هذه القصص هو من يشاركها. فهذه المرة يشارك هذه القصص الذكور من هذه العائلات. الأمر الذى تقول مي وميرا وحياة إنه يعزز الآمال بشأن تغيير حقيقي على الأرض يحاصر ظاهرة التحرش بهدف القضاء عليها حتى ولو بعد حين.

 

لاتنسى مشاركة: التحرش الجنسي: "السكوت ليس علامة الرضا" على الشبكات الاجتماعية.

المصدر : bbc عربي