أخي (الخادم)

أخي (الخادم)
أخي (الخادم)

 

بقلم / أحمد عبدالحق الإبراهيمي

لقد تعود الناس في اليمن على وصفه بـ"الخادم" وهو وصف عنصري يستهدف اللون أو العرق ونوع العمل متناسين من يطلقون عليه هذه التسمية أنهم هم لم يصبحوا أحراراً بعد.

رفض المستشفى استقبال مريض لمجرد الشك أنه من فئة معينة. هكذا يفترض بنا تناقل الخبر بدون إضافات تعريفية، لكن الظلم يتتبع عاثري الحظ ويحول بينهم وبين المساواة أمام الموت وقد ميزتهم قبله الحياة ... الحياة الظالمة التي لم تنسى أن تسقطهم من واجب الحق الإنساني ومن أخبارٍ عن إعطاءٍ لحقوقِ إنسانٍ مهمش. كأنما المقهور لا يدخل الجنة وكأن الضياء حصري والفردوس كذلك.

ليس من الذكاء محاورة شخص غبي يعتقد أن المهمشين هم سبب كل ما نحن فيه، وهذه معلومة متداولة، ويضيف قائلاً: "أرفض رفضاً قاطعاً أن ينام خادم وعامل نظافة بجانب سرير ابنتي في المستشفى فهو يحمل كل البكتريا والفيروسات الضارة في جسمة".

قال هذا بعد أن سمعني أحتج وأرفع صوتي على إدارة المستشفى. إرتفع ضغط دمي وهو يصفهم "بالسقط" أيضاً، ويصمت مطالباً بالفصل بيني وبينه احتراماً للعرف. هنا يتأكد لي أن الأمر ليس في السياسة بقدر ما هو كتلة ظلم في الوعي اليمني برمته. 

أشعر بالخزي من الحياة في بلادٍ لا يزال فيها الإنسان الأسود اللون مجرد "خادم" مرتبط ذهنياً بكل ما هو قذر. والقذارة هي ربط الإنسان الأسود ذهنياً بكل ما هو قذر. مضى زمن بعيد ولم تتزحزح حقوقهم قيد أنملة، لم يحققوا شيئاً البته، كانوا أخداماً أيام الدويلات اليمنية، كانوا أخداماً وكان "الإمام" يطل من نافذة مخدعه ليرى رعاياه يتجولون وبينهم بعض الأخدام.

قرأ الناس، وأثرى فقراء الماضي، وأصبح في اليمن مثقفون كثر، وجامعات، وتجارب حزبية مدهشة، وتحول قصر الإمام الى متحف، ولم يعد المتجولون قرب القصر الخرب رعايا الامام، غير أن السود قرب أطلال القصر لا يزالون أخداماً.

سبعون عاماً تقريباً بين تمسك امرأة سوداء في أمريكا بمقعدها في الباص رافضة التمييز حينما صرخت: لن أقوم من مقعدي، سئمت هذا كله.

سبعون عاماً بين سأم السيدة السوداء على مقعد الباص ومقعد البيت الأبيض الذي جلس عليه رجلٌ أسود اللون إسمه "أوباما".

تتحرك ذهنية القاطنين في أكثر بقاع العالم تعرضاً للقسوة والتمييز، فيما لم أسمع شيئاً عن إمكانية دفع الأشخاص ذوي البشرة السوداء في اليمن عن طريق الاحتقار ومحاولة تجنيبهم قذارات ذهنية لم تقم بخطوة واحدة في طريق القبول بالأفكار الإنسانية منذ زمن بعيد.

في وطنٍ لا وطن له فيه، كنتيجة مسلم بها من قبل الجميع بأن لا أحد يعترف به أو يؤمن بحقيقة أن عامل النظافة الشريف الذي يأكل من كد يديه يتساوى وبكثير مع رئيس جمهورية يقوم بعمله أيضاً.

وقد أثبتت الأيام الماضية أن عامل النظافة هو العضو الأول في أي مجتمع، لأن (النظافة من الإيمان) وهي الركن الأساسي في قاعدة أي حضارة وعلى حد سواء. وهذا ما نفتقر إليه في عالمنا لأنه وبكل استهتار يزرع تحقير مهنة النظافة والعاملين فيها في نفوسنا منذ الطفولة باستخدام النظافة كعقاب للطفل في المدرسة بدلاً من وجود برامج توعية بأهمية النظافة وأن من يقومون بتلك المهمة المقدسة يستحقون الكثير والكثير من الإجلال والتكريم. ويبدأ الدور الأساسي في هذه التوعية من البيت ثم المدرسة وينتهي بوسائل الإعلام التي صدعت رؤوسنا بالأحاديث الفارغة دون الإلتفات بنظرة جادة نحو موضوع مهم كهذا وتأدية دورها الإيجابي في زرع التوعية الإيجابية نحو هذه الأمور في ظل غياب الدور الفاعل والملموس للجهات الرسمية والأحزاب والمنظمات وترك الباب مفتوحاً للمماحكات التي تغيب فيها مصلحة الوطن، وضرورة إدماجهم في المجتمع، لأنهم فئة مهمة قد تمثل خطراً على المدى البعيد إن لم يتم تلافي غضبهم وفقرهم، وبوجود الكثير ممن يستغلون حالتهم تلك بزجهم في ثنايا صراعاتهم عبر ضخ الأموال نحوهم، وبدلاً من التغاضي وتكميم الأفواه وعصب الأعين عنهم وحشرهم في زاوية المتهمين دائماً دون النظر إلى حالهم وتلمس معاناتهم التي لا يقف على أعتابها ذوي الشأن.

أعتقد أننا نتجشم عناءً في الاعتياد على التعامل بلياقة مع هذا اللون الإنساني، إذ تتحول المبالغة في التكريم التي يقوم بها مثقف إنساني لأجل رجل أسود اللون هي في الأخير ضرب من التمييز.

يمكننا النظر إلى الممثل العالمي "دنزل واشنطن" على أنه فنان ملهم، يمكننا احترامه بنفس الطريقة التي نحترم فيها "توم هانكس".

هنا قد نشفق غير أننا لا نمتلك الشجاعة الكافية لندرك كم أننا مهترئي المشاعر، وبلا أخلاقٍ تذكر.

ذات يوم، أخرجت طعام إفطار لثلاثة عمالٍ من ذوي البشرة السوداء جلبتهم لتنظيف المجاري المسدودة، وبقيت إلى جانبهم أنادي: إفعل يا سعيد، هات يا سعيد . وأروي نكتة، وأقسم أنني هنا لا أستعرض مواقفي (الإنسانية) فالأمر لا يعدو كونه مجرد محاولة. المهم أن ردة فعلهم أفصحت عن احتقان شخص يتألم جداً لمجرد أن لونه أسود فقط. ويدرك الفارق البسيط بين مستويين للتمييز، أحدهما أقل قسوة ربما. رفضوا أخذ مقابلٍ بداية الأمر، وأصروا، ورددوا كلمة "إنسان"، وأشياء عن احترام الناس. أقول أنهم يعرفون، يعرفون تماماً، "السود" عندنا على دراية كاملة بكل الذي نقوم به ضد كرامتهم.

يمكن تفكيك القصة المهذبة للمجاري المسدودة أكثر إذ كنت في البداية أسأل المارة عن مكان "الأخدام" متحفظاً بمصطلح "السود" في أناي الثقافية. وهم بدورهم "السود" فطنوا للأمر في غمرة التهذيب، إذ رد أحدهم: "إحنا ما ننظفش المجاري بس على شانك".

تُدرك مع مرور الوقت حالة الفصام التي نعيشها من خلال ربط "السود" بالمشكلات القذرة، ومن ثم محاولة جعل الأمر أقل قسوة بمنحهم وجبة إفطار ونكتة.

وأخيراً رواية الحكاية على هذا النحو، هو ما نسميه بالتعايش الأبدي بين التفاهة والدراماتيكية.

لاتنسى مشاركة: أخي (الخادم) على الشبكات الاجتماعية.