ثـــــورة ٢٦ سبتمبـــــر ١٩٦٢م   (اطلالة على بعض مقدماتها ودواعي قيامها) 

ثـــــورة ٢٦ سبتمبـــــر ١٩٦٢م   (اطلالة على بعض مقدماتها ودواعي قيامها) 
ثـــــورة ٢٦ سبتمبـــــر ١٩٦٢م   (اطلالة على بعض مقدماتها ودواعي قيامها) 

 

د. رياض الصفواني     

 ــ مدخل

   تحتل ثورة ٢٦ سبتمبر ١٩٦٢م أهمية استثنائية في الذاكرة اليمنية، ففي فجر هذا اليوم حملت نسائم التغيير بشائر عهد جديد تخلّق في أحشاء العهد القديم، هو عهد الانتقال من حقبة الإمامة - الملكية المتوكلية (١٩١٨م - ١٩٦٢م) كآخر حلقة في سلسلة حلقات الإمامة الهادوية إلى الحقبة الجمهورية، على مابين الحقبتين من تناقض أو تعارض في الطبيعة والخصائص والمفهوم وكذا في الممارسة العملية، وذلك بالقدر ذاته الذي ينطوي عليه التناقض أو التعارض في تركيبة الحكم في ثنائية إمامي - ملكي، ولعل من المفيد أن نتوقف برهة لنحاول أن نستطلع بعض ملامح هذا التعارض كما رشَح في فهمنا البسيط، المستند على مطالعات متفرقة في موضوعات فقهية سياسية محدودة، دون الحاجة إلى ذكر استشهادات قد تصرفنا عن جوهر الموضوع وسياق عرضه.

 فـ الإمامة منصب ديني في المقام الأول (إمامة صغرى - انطلاقاً من إمامة الصلاة)، وهي منصب ديني سياسي في المقام الثاني (إمامة كبرى)، تنعقد ببيعة نخبة من الفقهاء والعلماء أهل الحل والعقد للمرشح للإمامة، وفق الشروط الأربعة عشر المنصوص عليها عند الهادوية، وهي أن يكون الداعي للإمامة: علوياً، فاطمياً، ذكراً، مكَلّفاً، مجتهداً، ورعاً، عدلاً، سخياً، شجاعاً، فارساً، صاحب رأي وتدبير، سليم العقل، سليم الحواس، سليم الأطراف، وهي الشروط التي غلبت عليها المثالية (التنظيرية) أكثر منها الواقعية العملية، فلم تتوفر بالدقة الحرفية والحصرية في من تولوا الإمامة على تعاقب مراحلها، لافي آل حميد الدين ولا في من سبقهم من البيوت العلوية، كما دلت على ذلك وقائع حكمهم، ومواقف رفض بعضهم بيعة بعض، وصراع بعضهم مع بعض، بدعوى عدم استيفاء كافة شروطها في الداعي لها، فكان شَرطا: الاجتهاد والشجاعة أحدهما أو كلاهما المتصدر في الداعي للإمامة بمعزل عن الأخذ ببقية الشروط، وكأن ذلك بمثابة تنازل من معظم الشروط لصالح هذين الشرطين الأساسيين، هذا من ناحية، وكصيغة تصالحية مع أحد الداعين للإمامة من ناحية ثانية، لكونه الأوفر حضوراً بين مختلف الداعين، وهذا الأمر أو ماعبرنا عنه مجازاً بالتنازل من جانب بقية الشروط قد نحى بالإمام القائم منحى التحول نحو الملك والتوريث بمرور الوقت، لابالنظر إليه من شُرفة الترقي في التفكير النظري والعملي، وإنما من منظور البناء الزمني، وهو مايمثّل بالنتيجة انقلاباً على النظرية السياسية الزيدية الهادوية، التي لاتقر مسألة التوريث في الإمامة أو تحولها إلى ملك عضوض. في حين أن الطبيعة السياسية الزمنية هي الصفة الحصرية أو الغالبة على النظام الملكي، بشكليه المطلق والدستوري، وهو ماتبدى إشكالية في العهد المتوكلي وذلك في صورة الخلاف حول ولاية العهد بين البدر محمد ابن الإمام أحمد وبين عمه الحسن، حين اعترض الحسن على تولية البدر الإمامة والملك بعد أبيه، وأرجع ذلك إلى عدم توفر شرطي الاجتهاد والشجاعة في البدر، فضلاً عن أن مسألة ولاية العهد بحد ذاتها غير منصوص عليها في المذهب الزيدي الهادوي، وهو الأمر الذي شكل أحد بؤر الصراع على السلطة داخل العائلة الحاكمة، وترتب عليه عدم استقرار البلاد، وكان عاملاً من عوامل سقوط النظام الإمامي الملكي .

   وتأسيساً على ماتقدم، فإن الخوض في حدث بحجم ثورة ٢٦ سبتمبر يستدعي محاولة الحديث ماأمكن عن المقدمات والأبعاد التي تأسست عليها أو لنقُل بعض الملامح عن المقدمات والأبعاد، التي كانت انبثاقة لها، وهو الحديث الذي اختصت به هذه المقالة دون سواه.

١ ـــ مقـــدمات الثـــــورة:

   سبقت الثورة مقدمات عديدة شقّت لها الطريق وفق امكانات وظروف الزمان والمكان، منها مقدمتان كبريان، بالنظر إلى كبر الحدث وطبيعته ونوعية قيادته والتأثيرات والمترتَّبات، أُولاهما: حركة ١٩٤٨م الدستورية ضد نظام حكم الإمام يحيى وسلطاته الفردية المطلقة التي فشلت في تحقيق أهدافها في تغيير شكل وصيغة الحكم، على الرغم من نجاحها في قتل الإمام يحيى في ١٧ فبراير ٤٨م، فأدت نتيجتها إلى تقلد الإمام أحمد الحكم واصدار أوامره بإعدام قادتها من رجال المعارضة في مقدمتهم عبدالله بن أحمد الوزير ورفاقه من بعض العلماء والقضاة والمشائخ، وسجن عدد كبير منهم وممن اشتُبه به في التآمر على قتل الإمام، وهي ثورة في قناعة الفئة المعارضة لحكم الإمام يحيى، قياساً إلى زمنها ومستوى جرأتها في مواجهة قيادة دينية سياسية، نظرت إليها شرائح من المجتمع نظرة تقديس، وخلعت عليها صفات المهابة والجلال، عكست هذه النظرة طبيعة الوعي السائد ونوعيته آنذاك، وهي ثورة بمقياس فئتين من المؤرخين - دون الاستدلال بأسماء ونماذج كتابية - فئة من المؤرخين الحداثيين المتأثرين بالأيديولوجيا الثورية ذات المنزع اليساري والقومي (ماركسي - قوميين عرب - ناصري - بعثي)، وفئة من الباحثين المعاصرين غير المؤدلجين الذين تبدّت لهم حدثاً انقلابياً لا أكثر ولا أقل، استناداً إلى معطى انتقال الحكم من بيت حميد الدين إلى بيت الوزير، وتولي عبدالله بن أحمد الوزير الإمامة بحُلتها الدستورية الجديدة ذات السلطات المقيدة غير المطلقة، التي لم يزد عمرها عن ثلاثة أسابيع منذ مقتل الإمام يحيى، والتي مثلت - أي الفكرة الدستورية - نقلة في بنية التفكير السياسي، المتأثر بروافد الفكر السياسي التي شكلت الأساس النظري لنشوء الأنظمة الملكية الدستورية في بعض دول العالم، فاختمرت فكرة الإمامة الدستورية في أذهان أعضاء النخبة المعارضة، وكانت بمثابة الترقي العملي في درجات الإصلاح السياسي، المنبثقة من مضامين برنامج " الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" ١٩٤٠/٤١م، الذي تبنى الزبيري الدعوة إليه وصياغته، بوصف الزبيري أحد أقطاب المعارضة الإصلاحية حينها، وأجدني أميل إلى أنها حدث انقلابي، ذلك أنها لم تستهدف التغيير الجذري بمفهومه العميق والشامل لاعلى المستوى الأفقي ولا في المستوى العمودي، قياساً على الأبعاد التغييرية التي اضطلعت بها ثورة ٢٦ سبتمبر بالنظر إلى تطور فكرة نظام الحكم من ملكي سلالي طائفي إلى جمهوري شعبي ديمقراطي، وهذا كافٍ بحد ذاته لوسمها بالثورة، بصرف النظر عن جدلية تحقق أهدافها أوعدم تحققها .

وثاني المقدمات الكبرى هو انقلاب عام ١٩٥٥م ضد الإمام أحمد يحيى حميد الدين في مدينة تعز، الذي اضطلع به ضباط من قادة الجيش الإمامي بقيادة المقدم "أحمد الثلايا" بالتنسيق مع أخوي الإمام: الأمير عبدالله والأمير العباس، وذلك على خلفية اعتداء بعض الجنود على ممتلكات بعض أهالي إحدى قرى الحوبان، وإنزال الإمام أحمد عقوبته المستحقة في المعتدين، والتي على إثرها نُسجت خيوط الانقلاب، ونتج عنه إعدام قادة الانقلاب والداعمين له، على رأسهم الأميرين عبدالله والعباس والمقدم الثلايا، فاستثار ذلك مشاعر طلبة "المدرسة الأحمدية" بتعز، وخرجت أول تظاهرة احتجاجاً على قطع الرؤوس المنفذة والمتواطئة معها هاتفة:" لا إعدام لا إعدام، يحيا الشعب يحيا الشعب". وقد أبان الانقلاب عن جملة من الأخطاء التي أدت إلى سقوطه، ولعل من بينها: عنصرا الارتجالية والانفراد في التنفيذ باقتصاره على جنود قصر العرضي بتعز - ساحة الحدث - دون التواصل والتنسيق مع بقية ضباط وأفراد الجيش في مختلف المراكز والمدن، بالإضافة إلى شيوع خبر ارتباط الانقلاب بسلطات الاحتلال البريطانية في عدن، وعلاقة الأمير عبدالله الخارجية مع البريطانيين والأمريكان، وانقسام أفراد البيت المتوكلي بين مؤيد للأمير عبدالله ومؤيد للإمام أحمد، هذا الانقسام الذي دل على شدة تأزم العلاقة بين الإمام واخوته، وتحين الأمير عبدالله الفرصة للانقضاض على عرش أخيه، وهو ماأدركه الإمام فكانت حادثة الحوبان مناسَبة مؤاتية للقضاء على أطماع أخيه في السلطة ووضع حد لمؤامرات بقية اخوته عليه، فكان القضاء على الانقلاب واعدام المشاركين فيه رداً لفعل ونتيجة لسبب، على الرغم من دمويته . 

 أعقب ذلك تنظيم المظاهرات التي قادها بعض الشباب من طلبة المدارس في مدينة تعز وصنعاء، بالتزامن مع تنامي نشاط المعارضة في الخارج، كما كان عليه الحال في مصر بين عامي ٥٩ و ٦٢م، بعد أن انتقلت إليها قيادة الاتحاد اليمني من عدن، المعقل الأول للمعارضة اليمنية، ولاننسى قبل ذلك دور اتفاق الطائف عام ١٩٣٤م الموقع بين الإمام يحيى والملك عبدالعزيز آل سعود والذي في ضوئه رسّخ الأخير احتلاله لمناطق جيزان وعسير ونجران اليمنية بعد حرب عامين، واتفاق الحدود مع سلطات الاحتلال البريطانية في جنوب اليمن في نفس العام، والذي أنهى النزاع بين سلطات الاحتلال والإمام حول المناطق الجنوبية ومطالباته باستعادتها، وهما حلقتين أوليتين في سلسلة المقدمات التي تغذت منها المعارضة. 

   شكّلت هذه الحوادث محاولات أولية للدفع بالحالة اليمنية يومئذٍ إلى الواجهة السياسية الإقليمية والدولية، بهدف لفت أنظار قادة النخب السياسية والثقافية في الخارج إلى عدالة القضية اليمنية ومحاولة الحصول على الدعم المادي والتأييد المعنوي وإن لم يكتب لها النجاح، لعوامل ذاتية وموضوعية عديدة، أهمها عدم نضج الشروط الموضوعية ومحدودية كفائتها وكفايتها لإنجاح حدث يراد له أن يرقى إلى مستوى" ثورة"، مع فاعلية الدور الخارجي الإقليمي في إفشالها. 

   وبناءً على ماسبق، لم تكن ثورة ٢٦ سبتمبر عملاً ارتجالياً متعجلاً غير مدروس، أو نتاج معطيات موضوعية آنية، أو انقلاباً عسكرياً يحقق مصالح فرد أو جماعة أو فئة خاصة، بل تمخضت - كما أسلفنا - عن حوادث ووقائع امتدت وتراكمت خلال أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي، كامتداد هي الأخرى لحوادث العشرينيات والثلاثينيات من بداية تأسيس الحكم المتوكلي (انتفاضة المقاطرة وحاشد و ذو محمد وجهم وبعض قبائل لواء حجة والزرانيق)، كما اتضح في حادثتي ٤٨م و ٥٥م، وكما جرى في حركة مشايخ حاشد وبكيل وخولان وأرحب وبني حشيش وبني مطر عام ١٩٥٩م و"اتفاقهم على إسقاط النظام وإحلال نظام جديد يكونون على رأسه" كما ذكر الدكتور العزعزي، ومحاولتهم الفاشلة اغتيال الإمام في الحديدة في ذلك العام.

 وقد وصف الإمام حركة المشايخ بالتمرد - كغيرها من الحركات المعارضة له - فكان هذا أدعى لقمعها بعد أن أطلق وعيده بالبطش بمن يعارضه من المفسدين ومثيري الفتنة حسب توصيفه، قائلاً: "هذا الفرس وهذا الميدان ومن كذب جرب"، تلاها محاولتي اغتيال للإمام عامي ٦٠ (على يد سعيد ذبحان)و ٦١م (على أيدي الضباط اللقية والعلفي والهندوانة) أحدثت الأخيرة جروحاً بالغة أدت إلى وفاته في ١٩ سبتمبر ٦٢م، كما نظّم طلبة الثانوية ودار العلوم والكلية الحربية مظاهرة في نفس العام ٥٩م في صنعاء احتجاجاً على تردي الأوضاع وتفشي المظالم، لاسيما بعد أن تزايدت أعداد الخريجين من دار العلوم ومن المدارس الأخرى، وتشكلت منهم نخبة مالت إلى العصر وطالبت بتحديث الواقع القائم، وألحّت على فتح مجالات العمل، فأراد الإمام إسكاتها بفصل "مئتي طالب من هذه المدارس" كما روى البردوني، بل وامتدت التظاهرات إلى ماقبل اندلاع الثورة، حين تظاهر الطلاب في تعز وصنعاء والحديدة في أغسطس ٦٢م، وكانت آخر تظاهرة طلابية كإشارة إلى اقتراب الثورة، وذكر البردوني أن وهج هذه التظاهرة التي ضمت في صفوفها طلاباً من مختلف الأعمار قد لفتت إليها الأنظار، حتى قال عنها أحد المعمرين: "من يدري أن شعب المستقبل هو هؤلاء التلاميذ الصغار".

وكان للمرأة هي الأخرى دورها النضالي في سبيل تغيير الواقع وتحديثه، فقد أوردت بعض الكتابات أن بعض النساء كن يحملن الرسائل بين المناضلين من بعض البيوت في صنعاء إلى بعض المناطق القريبة، ومن هذه المناطق إلى صنعاء أواخر الأربعينيات بتكليف من بعض أفراد أسرهن، لمعرفتهم بعدم التعرض لهن من قبل الجنود الإمامية، وإن كان ذلك بالتأكيد كان يتم دون أن يعرفن خطورة هذه الرسائل وماتتضمنه من معارضة للإمام يحيى ودعوة للإصلاح السياسي وحكم الدستور، وبعضهن كن يجيدن القراءة والكتابة، ومنهن من التحقن بمدرستي التمريض اللتين افتتِحتا عام ٥٧م في كل من صنعاء وتعز - في سياق الانفتاح الجزئي في عهد الإمام أحمد قياساً إلى عهد أبيه يحيى- وتخرجت منهما جموع من الدارسات المختصات، والتي على أيديهن قام أول اضراب نسوي، احتجاجاً على إهمالهن من المرتب الشهري بحسب مايذكر بعض المعاصرين، وتم التصدي للإضراب، كما شاركت بعض نساء تعز بحماس في مسيرات التأييد للثورة في صبيحة قيامها إلى جانب الرجال، وهذا الدور النضالي للمرأة اليمنية يتطلب دراسة علمية موسعة في سياق التأريخ للحركة الوطنية اليمنية. 

    شكّلت مجمل هذه الحوادث مقدمات موضوعية مهدت الطريق للثورة، الثورة التي جاءت كتتويج لنضالات متواصلة بالكلمة المسموعة والنص المقروء شعراً ونثراً، عبر المتاح من الوسائط الإعلامية الداخلية والخارجية كـ صحيفة صوت اليمن، وفتاة الجزيرة، والقلم العدني، والطليعة، والفضول، وعبر الصحافة الخارجية كصحيفة "الإخوان المسلمون"، وصحيفة صوت اليمن التي استأنفت نشاطها في مصر بعد انتقال رموز المعارضة إليها، وعبر أثير إذاعة صوت العرب، التي أفردت مساحة للزبيري كنموذج أبرز ليلقي قصائده وخطاباته السياسية الملتهبة المنددة بسوء الأوضاع والداعية إلى تغييرها، ومن خلال صحيفة "السلام" التي رأس تحريرها الأستاذ عبدالله الحكيمي أحد رموز المعارضة في مدينة كاردف البريطانية، بالإضافة إلى المنشورات السياسية التوعوية التي خلت من أسماء كتابها، لدواعي أمنية، كمنشور " اليمن المنهوبة المنكوبة" والتجمعات واللقاءات المحدودة التي كانت تعقد بشكل سري في بعض البيوت في صنعاء ( بدايات تشكل جماعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) وفي تعز (نادي ذبحان الأدبي) وإب (هيئة النضال)، وبعض الأماكن العامة في عدن. 

 تجشمت المعارضة من أعضاء حزب الأحرار اليمنيين (١٩٤٤م) ثم الجمعية اليمنية الكبرى (١٩٤٦م) برئاسة النعمان والزبيري وعبدالوهاب الوريث ومحي الدين العنسي وزيد الموشكي وعبدالله الحكيمي على سبيل المثال لاالحصر تجشمت عناء السجون (نافع و القاهرة بحجة)، وذلك منذ اللحظات الأولى التي أدركت فيها تلك النخبة اغتراب النظام الحاكم عن العصر، وعجزه عن تحديث البنى السياسية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية للحاق بركب النهوض في العالم، فقد ظل اليمن حبيس تقاليد سياسية تجاوزها الزمن، تتمحور حول شخص الإمام الذي يستمد شرعيته من الله لا من الشعب، الذي يعد في النظام الجمهوري مصدر السلطات ومالك الشرعية الحقيقية التي بموجبها يقرر صلاحية الحاكم أو وعدم صلاحيته، وذلك بمقتضى عقد اجتماعي يربط بينه وبين الحاكم، وهنا تتجلى أوضح الفروق بين النظام الجمهوري ونقيضه الملكي.

 وقد استمدت المعارضة أفكارها من مبادئ الفكر السياسي الحديث، المستقى من كتابات أعلام النهضة الفكرية العربية كـ الطهطاوي والأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا، وغيرهم ممن تتلمذ عليهم وسار بالفكر العربي مستويات متقدمة بالتلاقح مع بعض أفكار ومبادئ الغرب الحقوقية والسياسية غير المتعارضة مع قيم الشورى والبيعة والاختيار في تراث النظم السياسية الإسلامية.

 ٢ ـــ دواعــي قيــام الثــــورة:

   مثّلت ظاهرة الرهائن والخطاط والتنافيذ أضلاع المثلث الذي ارتكز عليه النظام الإمامي في تأديب الرافضين لممارساته، وضمان الحفاظ على سلطانه. كما شكّل نظام الجبايات وفي مقدمتها جباية الزكاة بطريقة التخمين الجائرة التي تحولت بعد تزايد التذمر منها إلى أمانة في أواخر الخمسنيات، والضرائب المتعددة والمتراكمة على الفلاحين والعمال والتجار والحرفيين لتغذية الخزينة الإمامية، واستعمال القسوة في تحصيلها عائقاً أمام نمو مصالح ومكاسب هذه الفئات واستقرار معيشتها، وخلق فئة تجارية وصناعية ترتقي باقتصاد البلد وتحقق تنميته. 

 كما أذكت أساليب القسوة والتنكيل التي اتبعها موظفو النظام لتحصيل الجبايات حالة السخط الشعبي، مضاف إليها سياسة النظام غير العادلة وغير المتوازنة في توزيع المناصب الوزارية وحصرها على أفراد الأسرة الحاكمة، مع تركز سلطات الألوية في أيديهم وأيدي بعض المقربين من الإمام من أعضاء شريحة القضاة، علاوة على حصر عضوية الديوان الملكي على أفراد الأسر الهاشمية بالدرجة الأولى، وقد دَل إنشاء الهيئات والمؤسسات الحكومية المتمثلة في مجلس الوزراء، والمجلس الاستشاري، والديوان الملكي، والتشريفات الملكية، فضلاً عن انشاء علاقات دبلوماسية وتجارية مع بعض دول المعسكرين الشرقي والغربي، واستقدام بعض البعثات والخبرات التعليمية والعسكرية والفنية والطبية، والحصول على المساعدات لتنفيذ بعض مشروعات البنية التحتية كل تلك الإنجازات وغيرها دلت على مؤشرات دولة - في حدود تصور ذلك الوقت - لو أن الإمام أحمد أحسن استغلالها وصبغ حكمه بصبغة معتدلة ومتوازنة وبأفق وعي واسع، تأخذ بأسباب العصر وتفيد ماأمكن من التجارب السياسية والإدارية الناجحة في الأقطار العربية والإسلامية وغيرها، وتحقق النهوض المنشود في الحدود الممكنة آنذاك. 

 وكان لتزايد حدة الصراع بين أعضاء الأسرة المالكة على السلطة بعد أن أسند الإمام أحمد ولاية العهد رسمياً لابنه البدر في أعقاب فشل انقلاب ٥٥م دوراً في الدفع بالخيار الثوري في استراتيجية المعارضة نحو الأمام، بوصفه الخيار الوحيد بعد أن تعذر خيار الإصلاح السياسي في إطار النظام القائم، ولاسيما بعد أن تبلور الصراع في جبهتين : جبهة البدر (البدريين) وجبهة الحسن (الحسنيين)، وتغذية الجبهتين بروافد داخلية (انقسام العائلة المالكة والقبائل بين الطرفين) وروافد خارجية(النظام السعودي أنموذجاً) أججت الصراع خدمة لمصالحها، وفي ضوء كل ذلك اكتمل نمو المعارضة (مدنية وعسكرية) ونضجت الشروط الذاتية والموضوعية مؤذنة بدنو لحظة اشتعال الثورة، وعلى الرغم من بعض ملامح السياسة الداخلية الجيدة التي اتخذها البدر في اليوم الثاني أو الثالث من توليه الإمامة (٢٠/ ٢١ سبتمبر ٦٢م على اختلاف الروايات) والمتمثلة بإصدار مرسوم يلغي فيه نظام الرهائن، ودعوة جميع المغتربين للعودة، والعفو عن السجناء، ورفع مرتبات الجيش ووعود بتشكيل مجلس شورى يُنتخب من بين قوامه الأربعون عشرين عضوا، وإصداره مرسوم عدل فيه اسم المملكة المتوكلية إلى المملكة العربية اليمنية، إلا أنه بإعلان عزمه السير على نهج أبيه، والوقوف بشدة في وجه من يعارضه، ونكثه بالوعود التي قطعها للمعارضة التي كانت ترى فيه بديلاٍ مناسباً للنهوض بالبلاد - بعد أن أخفقت جهودها سابقاً في التعويل على أبيه في ظل حكم الإمام يحيى - أشعل تنظيم الضباط الأحرار فتيل الثورة في صبيحة يوم الخميس السادس والعشرين من سبتمبر، وهو التنظيم الذي شكل خلاياه قبل عام من الثورة في كل من تعز وصنعاء والحديدة - بقيادة اللواء عبدالله جزيلان( مدير الكلية الحربية) وعلي عبدالمغني (قائد الثورة) وعبدالله السلاّل (قائد الحرس الملكي للبدر) الذي تولى منصب أول رئيس للجمهورية العربية اليمنية.

 استهدفت الثورة في أدبياتها وبرامجها النهوض باليمن وتخليصه من الطغيان والاستبداد الفرديين، والقضاء على ثالوث الفقر والجهل والمرض، وإخراج البلاد من دائرة العزلة بدعوى الحفاظ عليها من الاستعمار - وعلى نحو خاص في عهد الإمام يحيى - إلى الانفتاح على العالم والعصر، ومن التقليدية إلى الحداثة، ومن الرعوية بمفهومها الفقهي (التراثي) الضيق إلى رحاب المواطنة بالمفهوم الفكري السياسي الحديث، وإن تعثر تحقيق العديد من هذه الأهداف أو المطالب لأسباب تاريخية وثقافية وسياسية واجتماعية وعسكرية، تتطلب دراسة مستقلة .

 ----------------------------- 

 مراجع علمية للاستزادة عن تاريخ اليمن في العهد الملكي المتوكلي :

- د. سيد مصطفى سالم: تكوين اليمن الحديث - اليمن والإمام يحيى ١٩٠٤ - ١٩٤٨م.

- د. عبدالله فارع العزعزي: اليمن من الإمامة إلى الجمهورية - دراسة في الخلفية التاريخية لثورة ٢٦ سبتمبر ١٩٦٢م. 

- د. صادق الصفواني: حركة المعارضة اليمنية في مصر ضد حكم آ ل حميد الدين ١٩١٨ - ١٩٦٢م.

- إيلينا جلوبو فسكايا: ثورة ٢٦ سبتمبر ١٩٦٢م، ترجمة: قائدمحمد طربوش . 

- عبدالله البردوني: اليمن الجمهوري .

لاتنسى مشاركة: ثـــــورة ٢٦ سبتمبـــــر ١٩٦٢م   (اطلالة على بعض مقدماتها ودواعي قيامها)  على الشبكات الاجتماعية.