*رسالة لم تصل* بقلم / أحمد عبدالحق الإبراهيمي

*رسالة لم تصل* بقلم / أحمد عبدالحق الإبراهيمي
*رسالة لم تصل* بقلم / أحمد عبدالحق الإبراهيمي

 

علبة سجائر ممزقة بين أغراضة، عليها سهم كيوبيد يربط بين حرفين«A» و«R»، ورسالة بالعربية تحمل أخطاء إملائية: «أنا كنت اشتي ابقي ماعك.. ما نسيتك ولا ثانية .. بحبك قاوي .. سلام يا حبيبتي».

هذا ما تركه شاب يمني قرر أن الموت فى رحلة البحث عن حياة جديدة أهون من البقاء فى البلد الظالم أهله.

كان هذا بعد أن اختار الذهاب للتجنيد على الحدود اليمنية.

وحدهم جموع العالقين في كارثة لم يتسببوا بها يدفعوا الثمن، يستيقظون بلا رواتب ، الكثير من الهواجس ، وسؤال متواتر : أين اذهب من المؤجر ثم اين أذهب من صاحب البقالة ؟ أين أذهب من الزي المدرسي وما الذي يقوله عني المطبخ والأواني الفارغة ؟ وفي النهاية يقبل على مضض أن يكون جندي على الحدود.

عائلتة حاولت تزويج اختة الصغيرة لقضاء دين العائلة الفقيرة والتي تبلغ من العمر ثلاثة عشر عاماً. أما هو فقد قرر الذهاب والتجنيد هناك طمعاً في راتب شهري زهيد.

ربما (A) كان أحمد أو أشرف أو أمجد أو أنور أو أيمن، و(R) ربما كانت ريهام أو ريم أو رحاب أو رباب، ربما كانا من تعز أو عدن أو إب أو صنعاء، وصاحب الرسالة التى أرسلها لي صديق مجند هناك أيضاً هو ضمن عشرات المجندين غير الشرعيين الذين ماتوا على الحدود وتم دفنهم هناك.

لا نعرف الطريقة التي مات بها (A) بعد، لكننا نعلم أنه كتب هذه الرسالة وهو بانتظار الموت، كتبها بيقين من يدرك أنها ستكون آخر كلماته، اختار أن يوجهها إلى حبيبته وحدها، كأنه يقول لـ (R) أنه فعل ذلك من أجلها فقط، وكل ما يطلبه بعد أن حانت لحظة النهاية: أن تعلم أنه يحبها، وألا تنساه، أن تبقى ذكراه شاهدًا أخيرًا على حلم إنسان بالحياة فى المكان الخطأ من العالم.

لا نعلم كيف هو حال ( R)الآن، هل وصلها خبر إستشهاد أو موت (A) برصاص قناصة على الحدود؟ هل اتصل أحدهم ليخبرها بموته؟ أم أنه بعد موته انقطعت أخباره وأصبح في عداد المفقودين؟ هل كان أهلها يعرفون حكايتهما أصلًا؟ كيف شرحت لأمها سبب بكائها خلال الأيام الماضية؟ وبماذا ردت على تلميحات سيدات العائلة بشأن الزواج من ابن خالتها؟

لم يهتم أحد فى اليمن بقصة (A) لا تنشر مواقع الأخبار اليمنية عادة إلا أخبارًا قصيرة من نوع «استشهاد عدد من الجنود برصاص قناصة الميليشيا»، وإذا كانت الحصيلة كبيرة نوعًا ما وتصادف أن الضحايا من سكان مدينة أو قرية واحدة، حينها تصبح القصة ساخنة بما يكفي لإرسال محرر ومصور يلتقيان أهالى الضحايا، لتظهر قصة ستحمل على الأغلب عناوين مثل «حكاية رحلة الموت» أو «موت على الحدود».

يتبين من موته المهين وحيداً ومكشوفاً بلا رجاء أننا قد ضللنا إنسانيتنا، وتركناه يواجه واقعه المرير وحيداً.

أجرمت المدرسة في حقة حين قدمت له تعليمًا فاشلاً لم يمكنه من كتابة ما كان يعتقد أنها آخر كلماته دون أخطاء إملائية، وأجرمت الدولة في حقه حين حرمته من العيش الكريم حيًا، وربما تكون حرمته أيضًا من الدفن بكرامة حيث يمكن لأمه أن تبكى على قبره.

أرفع قبضتي في ظلمات الليل نحو السماء وأصرخ : إلهي لماذا تخليت عنا ؟ 

قرونٌ ونحن نتقاتل يا الله ..

يرقصون في الهند الفقيرة المكتظة ونحن نتقاتل،

يتقدم العالم ونحن نتقاتل في حرب أكلت الأخضر واليابس وغالبية الضحايا شباب في مقتبل أعمارهم.

ولقد حظي كل البشر بفواصل ووقت مستقطع يلتقطون أنفاسهم ونحن نتقاتل.

يا الله أيها الماكث في الأعالي ، هل تجليت الآن في الثلث الأخير من الليل ؟ 

إن كنت تسمعني الآن امنحنا بعضاً من رحمتك، نحن اليمنيين وقد شبعنا موتا ومذلات.

إلهي الذي تعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور:

صدورنا لم تعد تخفي كل هذا الفزع والنواح وهجعة المغدور.

لقد تعبنا ، تعبنا حقا ، في عالم لم يعد يرانا غير موضوع استثمار وجشع .

نحن ذلك المولود لجارية فاجأها الطلق وحيدة في العراء وهي تصرخ : يا إلهي كن إلى جواري لوهلة ، كن إلى جوارنا قليلا ، نحن الذين نولد كالذباب ونموت كالذباب.

لاتنسى مشاركة: *رسالة لم تصل* بقلم / أحمد عبدالحق الإبراهيمي على الشبكات الاجتماعية.